هاجس الرحمة

يظن الإنسان حينما تدلهم به الخطوب والشدائد والمحن ويبتليه الله بذلك بأنه سيء الحظ و قليل الحيلة وضعيف وأنه لا أهمية له وهين عند الله وعند الناس حينما تخلى عنه الذين من حوله ولكن هذا يأس من روح الله يؤدي للكفر ولو أنه استحضر هاجس رحمة الله لما وصل به الحال إلى ضيق الأفق  وانسداد التفكير لأن رحمة الله واسعة ليس فقط بالثقلين الأنس والجان بل بالحيوانات والنباتات والطيور والحشرات والبكتيريا والنهر والبحر والحجر وغيرها من المخلوقات التي في هذا الكون لذلك الله سبحانه قد أرسل الأنبياء والرسل وأنزل الكتب السماوية منذ قديم الأزل ولم يؤاخذ ذرية آدم بمعصية أبيهم آدم ولم يؤاخذ الجن بمعصية أبيهم إبليس لأن الله سبحانه هو العدل قال تعالى “قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” بعدما أمر الله آدم عليه السلام وحواء والشيطان بالهبوط إلى الأرض وإتباع الهدى الذي ينزل على الأنبياء والمرسلين ومنهم أبونا آدم حتى آخر نبي وهو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قد جعله  مرسلا للعالمين الأنس والجان وحتى الجان قد جعل الله منهم رسل وأنبياء أو منذرين قال تعالى” يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَومفاد هذه الرسالات جميعا هو الإيمان بالله والتوحيد وعدم الشرك به وعبادة الله وحده والتسامح والإحسان والعدل وعدم الظلم وتساوي الجميع عند الله وتكون الأفضلية لمن بلغ مرتبة الإحسان والتقوى وكل ذلك ليعطي الله الثقلين الأنس والجان الفرصة في الحياة للتنافس في العمل الصالح والعمل لعمارة الأرض بالعلم وإقامة العدل والسلام حتى يبرز من يستحق حياة الخلود في الجنة ومن يستحق الخلود في النار وهو الأعلم حتى بدون أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا حياة الابتلاء ولكن ليقيم الحجة عليهم من خلال ملائكة يسجلون على كل إنسان الحسنات والسيئات فيضاعف الله الحسنة مئات الأضعاف ولو كانت من عمل يسير جداً أو بالنية الطيبة كما يسجل الملك السيئة سيئة بمثلها بدون مضاعفة ولو استغفر العبد لغفر الله له وأما النية السيئة لا تحتسب ولا تسجل إذا لم يقم العبد بعملها قال تعالى: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾و ما أخرجه البخاري  (7501) ، ومسلم (128) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” يَقُولُ اللَّهُ : إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ، فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا ، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا  فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ ” .
كما جعل الله من رحمته أن الهموم والأحزان والأوجاع من المرض وخلافه التي تعتري الإنسان إذا أحتسبها لله وقال الحمد لله على كل حال وكان لديه حسن ظن به فإن ذلك يتحول لحسنات وأجر عظيم وتكفير للسيئات وحتى الشوكة التي يشاكها فإن للإنسان أجرا عليها ولو أحسنت ليتيم بأن مسحت على رأسه وابتسمت في وجهه ورحمته فإن الله يجزيك بعدد شعرات رأسه من الحسنات وكذلك مساعدتك للفقير والمسكين وإعانتك لعابر السبيل ومن هو محتاج فإن الله يأخذ هذا العمل وينميه لك حتى يجعله جبال من الحسنات وتنال به أعلى المراتب في جنان الخلد لذلك أنت أيها الإنسان في عناية الله ورحمته منذ أن كنت نطفة في ظهر والدك  حتى دخلت في رحم أمك  ثم كونك وخلقك وكنت علقة ثم مضغة ثم تكونت في رحم أمك كجنين وصورك وأحسن صورتك وجعل الغذاء والماء والدفء والأمان يصل إليك وأنت لاحول لك ولا قوة  ولا تعلم لماذا أتيت ولا أين أنت ستكون بعد ذلك وما الغرض من وجودك وكنت تظن بأن هذا هو حدود عالمك في بطن أمك وهذه هي الحياة فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يُجمَع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات؛ بكَتْب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد))
ولذلك عندما تخرج من بطن أمك للعالم الخارجي الذي من حول أمك تصرخ وتبكي وبعدما تكبر تظن بأن هذا هو العالم فقط ولكنك ستعلم بعدما تكبر وتتعلم بأن الحياة الدنيا مقر لعبادة الله وعمارة أرضه بالعمل والعلم وتعرف بأن هناك عالم للبرزخ ثم عالم البعث وبعدها عالم الخلود الأرحب الذي لا يخطر على بالك حجمه ونعيمه وجحيمه ومميزاته والقدرات التي قد خلقها الله فيه، لذلك فمن رحمة الله على الأنس والجان بأن الله موجود حي لا يموت ولا يهرم ولا يمرض ولا ينسى ولا يسهو لأنه” ليس كمثله شيء وهو السميع العليم” لذا اطمئن وأحسن الظن فيه لأنه لن يتخلى عنك إذا دعوته وعبدته وتوكلت عليه ولن يخذلك في الدنيا وفي الآخرة وسيعوضك بالكثير عن الذي فقدته وسيرزقك بالأكثر والأبرك في الدنيا والآخرة ويصرف عنك أموراً أنت لاتعلم عن فداحة ضررها لأنه سبحانك لم يخلقك لكي يتصيد عليك الزلة أو الذنب أو يعذبك ويجعلك تعاني وتتألم أو يهينك بالابتلاء، لذا عندما تنتقل إلى العالم الآخر في حياة البرزخ هذا ليس معناها النهاية ولكنك دخلت في عالم أوسع وأشمل عن عالم الحياة الدنيا وناموس بزمن مختلف ومن رحمة  الله بأنك في قبرك لست لوحدك ولكن يؤنسك عملك الصالح الذي كنت تعمله في الدنيا وعلمك الذي تعلمته وأستفاد منه الناس وبل يصلك في قبرك أجر عمل الخير الذي صنعته في الدنيا  من دعوات الآخرين ومن العمل الذي أوقفته للخير مثل علم ينتفع به أو بئر حفرته ويشرب منه الناس والطيور والحيوانات أو مزرعة زرعتها ويأكل من ثمرها الناس والطير والحيوان والحشرات والبكتريا أو حديقة أنشأتها فلك أجر من استظل تحت شجرها أو ولد صالح أو بنت صالحة أو زوجة وفيه أو صديق أو أخ يدعون لك ويتصدقون عنك أو قمت بعمل نافع للناس سهل عليهم أمورهم في حياتهم فأن أجر ذلك يصل إليك عن طريق ملك من الملائكة يحضر لك هذا العمل أو هذه الدعوة في منديل بأنها حسنات لك وورد في الحديث الشريف عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”.،هذا هو رحمة الله بك مادام أنك أيها الإنسان لم تشرك بالله أو تكفر به أو تلحد به وتجحد خلقه لك وتجحد خلق هذا الكون وسخره لأجلك كخليفة له في أرضه، إذاً الموت وعالم البرزخ ليس نهاية العالم ولا نهاية الحياة بالكامل ولكنها مرحلة أن تكون في رحم أمك الأرض لتبدأ بعدها مرحلة أخرى حيث مرحلة البعث والأحياء من جديد ليتم الفصل بين الثقلين وبعدها المرحلة الأخيرة مرحلة الخلود إما في جنات النعيم أو خلودا في الجحيم وأعتقد والله وأعلم بأن من يخلد في نار السموم ويعذبون هم المشركين بالله والملحدين والجبارين الذين قتلوا وظلموا الكثير من الناس والظالمون الذين يأكلون أموال الناس بالباطل باسم الدين أو بعرض كاذب من الدنيا أو بالقوة الغاشمة لذلك كان لابد من قصاص الله منهم يوم البعث والحساب، لذلك استشعر هاجس رحمة الله بأنه لم يخلقك عبثاً أو خلقك وضيعك أو خلق الله الكون ليتسلى وأدار ظهره للكون ومن فيه ، اطمئن فالله محيط بما يحدث دقه وجله وصغيره وكبيره قبل أن يحدث وعالم بما سيحدث لأن الماضي والحاضر والمستقبل كله في علم الله وكل ذلك في سجل محفوظ وعندما تتأمل أيها الإنسان بأن الله موجود وهذه قدراته فإنك ستشعر بالاطمئنان والارتياح لأنه لو حتى خذلك أقرب الناس لك فالله لن يخذلك ويتخلى عنك مادام أنك في تواصل معه في الرخاء قبل المحنة وبعدها وأعلم بأن بعد المحنة منحة أو منح لا تخطر لك على بال وبعد الضيق فرج وأن بعد العسر يسرين، فكل ما عليك عمله هو أولا أن تكون نيتك طيبة مع الله ثم مع الناس وتعمل الخير لوجه الله  وحاول بأن تجعل لك أعمالاً صالحة خبايا لك مع الله وأن تستشعر بأنك مهما عبدت الله وحمدته وشكرته فأنك لن تعبده حق عبادته ولكن سدد وقارب وأعبده بقدر استطاعتك وأن تتعلم علوما أخرى لكي تستطيع بهذه العلوم معرفة الله أكثر وتنفع نفسك في الدنيا والآخرة  ولكي ينتفع الناس من علمك وعملك وخبراتك وأن تصبر على ما أصابك من هموم وأحزان وأوجاع لأنه حتى الرسل والأنبياء والصالحون لم يسلموا من ذلك ، فبعد هذه القناعات التي وصلت لها وفهمتها ستجد بأنك قوي بالله وستجد الرضا والقناعة والسعادة وانشراح الصدر وستشعر بالأمان في معية الله وبحفظ ملائكته لك قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ﴾
وقال تعالى” إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون”

قال ابن عباس رضي الله عنه: “المعقبات من الله هم الملائكة، جعلهم الله ليحفظوا الإنسان من أمامه ومن ورائه، فإذا جاء قدر الله الذي قدر أن يصل إليه، خلوا عنه”

وقال مجاهد: “ما من عبد إلا له ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن الإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه إلا قال له الملك: وراءك، إلا شيء أذن الله فيه، فيصيبه”

لأنه قال سبحانه قال ” ألَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” وبحديث قدسي عن النبي ﷺ: قال الله : أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه؛ ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ؛ ذكرته في ملإ خير منه، وإن تقرب إلي شبرًا؛ تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب مني ذراعًا؛ تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي؛ أتيته هرولة″ في ظل كل هذه المعية  تستشعر كل هذه الرحمة من الله والأهمية منه سبحانه لأنه يحبك أتعرف لماذا؟! لأنه قد خلقك من روحه ويخاف عليك حتى من ظلمك لنفسك ويريد أن يغدق عليك برحمته ونعمه وعطاياه في الدنيا والآخرة.

سلمان محمد البحيري

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …