الرحيل إلى العالم الآخر

شعرت حنان بالاختناق وبالحزن والوحدة وضاقت بها الأرض بما رحبت وخاصة أنها يتيمة الأم فقد توفيت أمها وهي طفلة صغيرة وأرادت الذهاب لصديقتها مي لتشكي لها همومها
فلبست كالعادة فستانها وعباءتها وفتحت جوالها وطلبت من أحد التطبيقات للتوصيل سيارة أجرة لكي توصلها إلى صديقتها وفي لحظات جاءتها رسالة بأن السائق قد إقترب من منزلها ،فخرجت عند باب البيت
وعندما وصل السائق ركبت حنان في الوراء خلف السائق
وبعدها بنصف ساعة وصلت لحارة صديقتها مي ورأت في الشارع تحويلات وصبات خراسانية مملوءة بالحفريات
فقالت لسائق السيارة “قف هنا لو سمحت” وأعطته الأجرة
ثم نزلت من السيارة وعدلت قليلاً من غطوتها وعباءتها
ثم بدت بخطوات مسرعة لتقطع الشارع
ﻟﻢ تقف لكي تنظر ﻳﻤﻴﻨﺎً ﻭ ﺷﻤﺎﻻً
لانشغال تفكيرها بهمومها ومشاكلها في بيتها وحياتها
وعند ﻋﺒﻮﺭها ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ
ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﻴﺮوهي ﺑﺪﻭﻥ تركيز
ﻓﺠﺄﺓ حدث مالم يكن في الحسبان
إنه ﺻﻮﺕ ﺻﺮخة قوية بألم
لفتت نظر الناس الذين كانوا هناك إلى مصدر الصوت
وعندما اقتربوا من المكان ونظروا
رأوا فتاة في عمر الزهور قد ارتطم ﺟﺴﺪﻫﺎ ﺍﻟﻬﺰﻳﻞ بشاحنة مسرعة
وﺍﻟﻜﻞ صدم من هول المنظر
إنها ﻓﺘﺎﺓ في العشرين قد تلطخ بعض جسمها
ﻋﻠﻰ ﻣﺎﻳﺒﺪﻭ ﺑﺎﻟﺪﻣﺎﺀ

وبعد ﺛﻮﺍنٍ ﻗﻠﻴﻠﺔ
صار ﺟﺴﺪﻫﺎ وملابسها كلها منقوعة باﻟﺪﻡ
وﻋﻠﻰ ﻣﺎﻳﺒﺪﻭ إنه كسور قوية في جسمها و ﻧﺰﻳﻒ حاد
فالتف ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ على هذا الحادث المؤلم
وقد حزنوا على ذلك
وحينما جاؤوا لموقع الحادث لفت نظرهم
نور وجهها ووقفوا مذهولين ﻣﻦ ﺳﺮ اﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻬﺎ
ﺍﻟﻤﺮﺳﻮﻣﺔ ﻋﻠﻰ وجهها برغم الحادث المؤلم
فقام أحد الأشخاص فخلع شماغه وغطاها
فأجرى البعض اتصالات بالشرطة والإسعاف
وبعد لحظات أتت دورية الشرطة
وبعد إن وصلت دورية الشرطة نزل منها الشرطي وسأل :كيف
وقع الحادث؟! ومن قد دهسها؟!
فقال بعض الحضور إنه صاحب شاحنة قد صدمها وهرب
فقال ألم تصوروها أو تسجلوا رقم لوحتها فقالوا: لا لإنه قد حدث ذلك سريعاً
أما حنان فقد أحست في هذا الحادث الأليم بسعادة
فظاهر هذا الحادث للناس العذاب ولكن باطنه الرحمه لها
لإنها قد ﺷﻌﺮﺕ ﺑﺎﻟﺮﺍﺣﺔ
وﺑﺎﻟﻬﺪﻭﺀ ﻭ ﺍﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ﺗﻤﻸ ﺭﻭﺣﻬﺎ
لأنها قد قابلت رباً كريماً
قد أرضاها بعد أن قبض روحها وأنساها كل معاناتها والآلامها
نعم هي ﻧﺴﻴﺖ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ فهي رحلت عن عالم القسوة والعنف والكراهية والحقد إلى عالم الحب والرحمة عند الله
فقد ﻧﺴﻴﺖ قسوة أبيها عليها بسبب زوجته
لإنها متسلطة ومتجبرة عليها لأنها كانت تسلط أباها عليها وتتهمها

بأشياء لم تعملها لا لشيء ولكن لكي تجعل والدها يضربها
لقد كانت زوجة أبيها تستمتع و تبتسم من خلفه حينما يوبخها أبوها أو يضربها
لذلك شعرت بأنها يتيمة الأب أيضاً لأنها تشعر بأنه لايحن أو يخاف عليها وليس لأنها قد فقدت أمها منذ طفولتها و التي كانت الحضن الدافئ لها
ﺗﺎﺭﻛﺔ ﺍﻳﺎﻫﺎ ﺧﻠﻔﻬﺎ
بعكس والدها الذي كان دوماً قاسياً وشحيحاً عليها
ودائماً يكذبها بالرغم أنها دوماً صادقة ويحرمها من أبسط الأشياء التي تريدها
إنها كانت تبات ﻟﻴﺎﻟﻲ ﺍﻟﺸﺘﺎﺀ ﺍﻟﻄﻮﻳﻠﺔ
ترتجف من البرد وبطنها ﺧﺎﻭﻳﺔ جوعاً ﻭمعنوياتها ﻣﻨﻬﺎﺭﺓ
بسبب مرضها والآمها التي في جسمها وروحها
وبرغم أنها مصابة بمرض السرطان إلا أن والدها وزوجة والدها لم يحنوا عليها
ولقد تذكرت بأن والدها قد صفعها على وجهها
حينما أرادت فقط منه أن يشتري لها معطفاً لكي يقيها من شدة البرد
وكما كان يضربها إذا طلبت منه شراء فستان لها بالعيد
لذلك كان ﺍﻟﺸﺘﺎﺀ دوماً ﻗﺎﺭساً جداً ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ عليها
ﻭ خاصة أن جسمها النحيل المريض ﻟﻢ يعد يتحمل
هي تتعذر دوماً من دعوات الحضور لحفلات صديقاتها أو زواج بعضهن
ليس كِبراً أو حسداً ولكن لأن والدها لايعطيها نقوداً
أو يذهب معها لتشتري ملابس لها
هي ابتسمت لأنها لن تعد تشعر بتلك الآلام النفسية والجسدية
ولأنها قد تركت من وراءها الذل والحرمان والأحزان
ثم عند ﻗﺪﻭﻡ ﺳﻴﺎﺭﺓ ﺍلإﺳﻌﺎﻑ
نزل منها الدكتور وطاقمه
ثم ﺗﺮﻙ ﻟﻬﻢ ﺍلحضور ﺍﻟﻤساحة ﻟﺘﻔﻘﺪ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ
وقاس نبضها ثم قال بهدوء وحزن
“إنا لله وإنا إليه راجعون البقاء لله ،قد فاضت روحها إلى بارئها ”

image

image

image

image

image

ثم قال “هل من أحد قريب لها هنا؟!” فلم يرد عليه أحد
ثم أخذوها المساعدين للطبيب على سرير الإسعاف وأركبوها في سيارة الإسعاف وأخذوها للمستشفى
ثم غادر ﺍﻟبعض إلى بيوتهم والبعض الآخر لأعمالهم
وهم حزينون، إﻻ ﻫﻲ فقد كانت سعيدة في رحلتها إلى السماء
لإنها قد رحلت بقرب رب كريم رحيم الذي سيعوضها عن هذا الألم والحرمان إلى جوار أمها
ﺍﻟﻰ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻬﻨﺎﺀ ﻭ ﺍﻟﺴﺮﻭﺭ
إلى ﺣﻴﺚ ﺍلرحمة والكرم من الله
الذي سيعوضها عن معاناتها
من حرمانها من عطف أبيها
فبعدما أخذت ملائكة الرحمة روحها
وحلقت بها بعيداً إلى السموات
هي التفتت للأرض وهي مبتسمة وتقول بسخرية
زوجة أبي ، أبي، أيها المرض، لقد تركت لكم الأرض والحياة بما فيها
لكي ارتاح منكم وترتاحوا مني
أيها البشر اهنؤوا فيها بكراهيتكم وبنجاستكم وحسدكم وحروبكم وبقسوتكم وخداعكم وكذبكم ونذالكتم على بعضكم البعض.

سلمان محمد البحيري

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …