زبنة رشيد

فلنبدأبقراءة واحدة من أجمل قصائد الغزل في الشعر النبطي التي تغنى بها المطرب السعودي الشهير محمد عبده، وهي للشاعر الراحل منصور المفقاعي :

يا حبيبي حكمت، وخلّي حكمك عدال ++ سوّ.. بي ما تشا، وافعل على ما تريد

الله اللي عطاك، وصوّرك بالجمال ++ فارقٍ بالبها، والملح.. فرقٍ بعيد

من تجي راس ماله.. ما يبي راس مال ++ إن حيا جنّته، وان مات يكتب شهيد

ليت من ينهبه.. يا سعود.. هاك الغزال ++ ثم يزبن عليكم.. مثل زبنة رشيد

آه من فات عمره.. ما اهتنى بالوصال ++ راح عمري بلاش، وعشت عيشة شريد

جلّ من صوّرك، وكمّلك بالكمال ++ أشهد اللي ينالك.. ذاك حظّه سعيد

يا حسين البها.. ما عاد فيّ احتمال ++ باح صبري، وحبّك كلّ يومٍ يزيد

ساهراتٍ عيوني.. فيك طول الليال ++ باكيٍ، وآتذلّل.. كود فيكم يفيد

ما رحمتوا محبٍّ.. قد غدا كالخلال ++ في هواكم سقيم، وصار سقمه شديد

وتعالوا… ندقق في هذا البيت من القصيدة السابقة:

ليت من ينهبه يا سعود هاك الغزال ++ ثم يزبن عليكم مثل زبنة رشيد

هكذا تمنى منصور المفقاعي في قصيدته التي كانت عبارة عن قلادة ثمينة كان هذا البيت واسطة عقدها، فمن هو سعود ؟؟ وما هي زبنة رشيد؟!

أولاً: (سعود)، فهو الأمير الشاعر سعود بن بندر بن محمد بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، والذي كان شاعرنا المفقاعي من مرافقيه و(اخوياه)، وهو الشاعر المعروف الذي توفي شاباً سنة 1986م بسكتة قلبية.

أما (رشيد)، وزبنته التي تمنى الشاعر أن يحذو حذوها ثم يلجأ إلى الأمير السعودي، فهي مربط الفرس، ومدار إيميلنا هذا ، وهي حكاية تختلط فيها الأحداث التاريخية بالأزمات السياسية بالعادات العربية الأصيلة.

فتعالوا نبدأً الحكاية، فنعرف أولاً برشيد هذا..

هو السياسي العراقي الشهير (رشيد عالي الكيلاني) الذي ولد في بغداد سنة 1893م، وتعلم في مدارس بغداد الإعدادية والثانوية ثم التحق بكلية الحقوق، وعقب نيل إجازتها، تقلد عدة مناصب حكومية، فاشتغل بالتدريس في كلية الحقوق ثم مديراً عاماًّ لأوقاف الموصل، وقاضياً في محكمة الاستئناف ثم استقال، وعاد إلى المحاماة، وبزغ نجمه سريعاً في الأوساط الوطنية والسياسية نظراً لوضع أسرته المرموق في بغداد، وفي سنة 1924 عُيّن وزيراً للعدل، وهو في الواحدة والثلاثين من عمره، ولكنه ما لبث أن قدمّ استقالته على أثر التصادم الذي وقع بين الإنجليز وبين الحكومة حول استثمار البترول العراقي، واشترك الكيلاني مع السياسي العراقي ياسين الهاشمي سنة 1930م في تأسيس حزب الإخاء الوطني، الذي لعب دوراً خطيراً في سياسة البلاد في ذلك الوقت.

وفي عام 1932، عين رئيساً للديوان الملكي، وسكرتيراً خاصاَّ للملك فيصل الأول، وفي عام 1933 شكل رشيد الكيلاني وزارته الأولى، وهي الوزارة التي نشبت في عهدها ثورة الآشوريين، فتصرف في إخمادها تصرفاً حازماً، وكلف الفريق بكر صدقي بالقضاء عليها، ففعل.

وبعد وفاة الملك فيصل سنة 1933م، وإبان عهد الملك غازي شكل الكيلاني الوزارة الثانية، وفي سنة 1940م شكل وزارته الائتلافية الثالثة التي اصطدمت مع الإنجليز لرفضها قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيطاليا، وكان الإنجليز كما يبدو في تقاريرهم يكرهونه كراهية شديدة، وطلبوا رسمياً عدة مرات إقالته من منصبه مما وتر الأمور، وكانت الحرب العالمية الثانية في بدايتها، والمد النازي في أوجه، وكان العرب، وخاصة القوميين منهم يعوّلون على النازية كثيراً في خلاصهم من الاستعمار البريطاني، ويضعون حساباتهم على هذا الأساس، وتحت هذه الأجواء قامت حركة (رشيد الكيلاني) في العراق سنة 1941م، فدعونا نعيد عقارب الساعة سبعين عاماً إلى الوراءوبالضبط إلى 3 إبريل 1941م:

– الجيش العراقي ينتفض على الوصي على العرش العراقي الأمير عبد الإله بن علي الهاشمي المتحالف قلباً وقالباً مع المعسكر البريطاني.

– ضباط الجيش ينصبون رشيد عالي الكيلاني رئيس الوزراء السابق والزعيم السياسي المعروف رئيساً لحكومة الدفاع الوطني التي شكلوها، وعزلوا الأمير عبد الإله عن الوصاية، وعينوا بدلاً منه الشريف شرف، وكانت هذه الحكومة تحت سيطرة الضباط القدامى من القادة الأربعة المعروفين بالمربع الذهبي برئاسة العقيد صلاح الدين الصباغ، وهم كل من فهمي سعيد، ومحمود سليمان، وكامل شبيب، ويونس السبعاوي.

– الوصي عبد الإله وابن أخته الملك الطفل فيصل الثاني بن غازي يفران إلى البصرة، ومنها إلى الخارج عند عمهم الملك الأردني عبد الله الأول.

– القوات البريطانية تتحرك من جهة الأردن، وتنزل جيوشها في البصرة في مسيرها نحو بغداد.

– حركة رشيد الكيلاني تخفق بعد شهر من قيامها بدخول الجيش البريطاني إلى بغداد في 30 مايو 1941م.

– رشيد الكيلاني يهرب إلى سوريا، ومنها إلى تركيا، ويتم إلقاء القبض على الضباط الأربعة التي تزعموا الانقلاب برفقة الكيلاني، وهربوا إلى إيران، وتم إحالتهم لمحاكمة عسكرية ثم الحكم عليهم بالإعدام رمياً بالرصاص. 

ولا يحل شهر نوفمبر حتى يصل رشيد إلى ألمانيا النازية حيث الملجأ الآمن لكل مطارد من قبل البريطانيين لينضم هناك إلى بعض العرب المتواجدين في برلين وقتذاك، ومنهم مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، والإعلامي العراقي يونس بحري.

وفي برلين لم يفقد الكيلاني طموحاته السياسية، وقد اعتمد بشكل كبير مع حليفه الحاج أمين الحسيني على انتصار دول المحور في الحرب العالمية الثانية، وأنشئت من برلين محطة إذاعة عربية سميت إذاعة (حيوا العرب من برلين)، والتي كان يديرها الإعلامي العراقي يونس بحري، وكانت تدعو لنصرة العرب، وتحرير الدول التي كانت تحت الهيمنة البريطانية والفرنسية.

وأخذ الألمان ينظرون للكيلاني وأمين الحسيني على أنهما القادة الثوريين والوطنيين للعرب التواقين للتحرر من دول الحلفاء كبريطانيا وفرنسا، وتمكنت الآلة النازية من إقناع الجماهير العربية بأنه لا توجد أي أطماع لألمانيا في العراق أو أي دولة عربية بدليل أن ألمانيا لم تحتل أي من الولايات العربية بعد انهيار الدولة العثمانية.

وتشجع الكيلاني للعب دور الزعيم العربي مع رفيقه أمين الحسيني، وأخذ يطلق التصريحات والبيانات للقادة والجيوش العربية بضرورة الانتفاض ضد الهيمنة البريطانية والفرنسية، وحث مصر وسوريا على الثورة ضد المستعمر منبهاً من خطر المخططات الأجنبية لمنح فلسطين لليهود، وخص الجيش المصري بخطاب يحثه مقاومة الإنجليز من خلال دعم، وتأييد الألمان، ودول المحور، ولاقت دعوته صدى لدى مصر حيث بدأ الملك فاروق يؤيد من طرف خفي تحركات الألمان لاسيما في معارك طبرق وليبيا وصولاً للعلمين غرب مصر، وبعد مهادنة الملك فاروق للانجليز أصدر الكيلاني بياناً يحث الجيش المصري بالانتفاض على الملك، ولقيت دعوة الكيلاني الترحيب لدى القادة العسكريين المصريين، وكانت لشعاراته الثورية من خلال إذاعة برلين العربية الأثر في نفوس الجماهير العربية في ذلك الوقت.

وتمر السنوات، وتلقى ألمانيا هزيمتها الشهيرة، وينتحر هتلر ورفاقه، وتدخل قوات الحلفاء العاصمة المدمرة (برلين)، فتضيق الأرض بما رحبت على الكيلاني، ولا يجد مهرباً سوى العودة إلى المنطقة العربية متخفياً، والبحث عن ملجأ له، فكان الخيار الأفضل هو الملك عبد العزيز آل سعود ذلك النجدي الشهم الذي لا تفتر نخوته، ولم يغير الملك والسلطان شيئا من أخلاقه العربية الأصيلة.

وهكذا تخفى رشيد الكيلاني مع مجموعة من السوريين سنة 1945م، ووصل إلى الرياض بينما كان الملك عبد العزيز آل سعود خارجها، وطلب (الدخالة) حسب العادات البدوية المعروفة، والتي لم يكن لها من رد لدى الملك عبد العزيز آل سعود سوى الترحيب بالكيلاني، والوعد بالأمن والعزة.

وتذكر إحدى الروايات أنه لما وصل الكيلاني ورجلان من مرافقيه إلى الحدود السعودية منعهم الحرس السعودي من الدخول لعدم وجود جوازات سفر بحوزتهم مؤشر عليها من إحدى مفوضيات السعودية، ولكنهم ألحوا، فأبرق المخفر الحدودي إلى الديوان الملكي السعودي، فأخبر الملك عبد العزيز بذلك، فاعتقد الملك أنهم حجاج، فأبلغ بأن يُخبروا أنه ليس وقت الحج حالياً لكنهم أوضحوا أنهم وفد سوري، وليسوا حجاجاً، فأمر الملك عبد العزيز بالسماح لهم بالدخول لمعرفة ما يريدون.

وهكذا رشيد الكيلاني إلى المملكة العربية السعودية، وكان الليل قد انتصف حين وصل الكيلاني وصاحباه إلى الرياض، فأمضوا بقية الليل في مكان أعد لهم دون أن يعلنوا أسمائهم الحقيقية، وكان الملك عبد العزيز قد قرر مغادرة الرياض فجراً إلى مكة المكرمة، وحين انبثق الفجر سأل عن الضيوف، فقيل له أنهم لا يزالون نائمين، فأوصى بألا يُزعجوا، وإذا اقتضى الأمر أن يتأخر موعد سفره قليلاً، فلا مانع لديه، وبعد ساعتين قيل له أن الوفد السوري على استعداد للتشرف بمقابلته، فأدخلوا عليه، وبعد السلام، وتبادل عبارات الترحيب سألهم الملك عن حاجتهم، فقال أحدهم أن صاحبنا هذا، وأشار إلى رشيد عالي الكيلاني له مسألة يلتمس عرضها على جلالتكم على انفراد، وانسحبا من مجلس الملك، وبقي الكيلاني وحده في حضرة الملك عبد العزيز، وهنا كشف عن حقيقة شخصيته قائلاً: (أنا رشيد عالي.. يا طويل العمر)، ويروى أن الملك عبد العزيز لم يقل شيئاً في تلك اللحظة بل اكتفى بالابتسامة.

المراسلات

ولحل القضية ودياً بدأ الملك عبد العزيز آل سعود بالتراسل مع الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله بن علي لإنقاذ دخيله الكيلاني من حكم صادر بالإعدام ينتظره في العراق، وقد وردت نصوص هذه المراسلات كاملة في كتاب (تاريخ الوزارات العراقية) للمؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني، وفي الرسالة الأولى يقول الملك عبد العزيز:

إن المصائب تبتلي الإنسان دون اختيار منه، وقد حدث عند خروج أخيكم من الرياض أن قدم إلينا وفد ادعوا أنهم سوريون، وقد تبين أن أحد رجال الوفد هو (رشيد عالي)، وبما أن المذكور لجأ بين محارمكم وعبلاتكم يرجو أن نشفع له عند سموكم بالعفو، ولهذا فإن أخاكم يرجو عفوكم عنه، وشموله بمكارمكم، وهذا من الشيم التي تقتضيها الروح الدينية والعربية.

ولكن الوصي عبد الإله لم يكن لينسى أن رشيداً هو الذي هز عرشه قبل سنوات قليلة، وفي المقابل لم ينس أن المتوسط له (أي الملك عبد العزيز) هو من قضى على عرش أبيه في الحجاز قبل أقل من عشرين عاماً، فرد على الملك عبد العزيز رداً موارباً حيث يقول:

إن من أعظم المزايا التي تعجبني في جلالتكم أخذ المفسدين بالقوة، فكيف بمن أراد أن يفسد كيان القومية العربية، والاستقلال العربي اللذين سعى بيتانا في إحيائهما السعي الكبير؟

ويتعلل الأمير عبد الإله في بقية الرسالة بميثاق الأمم المتحدة فيما يختص بإيواء مجرمي الحرب، وحكم القضاء العراقي على رشيد.

وتدور الرسائل بين الرياض وبغداد بمنطقين مختلفين:

منطق العربي الشهم الذي ابتلي بدخيل يريد خلاصه، ومنطق الشاب الناقم الذي يتحجج بالقوانين الدولية!!.

فها هو الملك عبد العزيز آل سعود يقول في الرسالة الثانية المؤرخة في 13 أكتوبر 1945م:

ما وجه أخيكم عند العالم في تسليم رجل ضرب البر والبحر، وصار في وسط محارمكم أن يخرجه منهم، ويضحي به؟!!

لاشك أن هذا أمر عظيم، فماذا تكون العين التي أنظر بها للناس.. أو الشرف الذي أرجو علوه؟

لاشك سيلحق عارها بآخر رجل من عائلتنا.

ويزداد تعنت الوصي في رسالته الجوابية مؤكداً:

أولاً.. العفو عن الرجل خارج عن مقدورنا.

ثانياً.. أن إطلاق سراحه ليضرب الطريق الذي يريده هو نقض صريح للمادة الثالثة من معاهدة تسليم المجرمين المنعقدة بين مملكتينا.

وتستمر المخاطبات بين الملك عبد العزيز آل سعود، والوصي عبد الإله، والأمور تدور في حلقة مفرغة، فينهي الملك عبد العزيز آل سعود القضية برد حاسم في رسالة ختامية:

علمنا أن الحكومة العراقية قامت فعلاً بتقديم طلب التسليم إلى حكومتنا، وأن حكومتنا قد أجابت الحكومة العراقية الصديقة بما تراه بهذا الشأن.

وهكذا هدأت الأمور بعد أن علم الأمير عبد الإله أن الملك عبد العزيز لن يسلم (دخيله)، ولا مجال لمناقشة (أبي تركي) في ثوابته ومبادئه التي نشأ عليها، وتشربها من أسلافه، وأورثها لأبنائه من بعده.

وهكذا… نجي الكيلاني، و(زبن) كما يقول البدو!!!

ولذا.. أليس من حق (الشاعر المفقاعي) أن يفكر بنهب محبوبته، ويزبن على الأمير سعود بن بندر؟؟

المصدر: موقع هوامير البورصة السعودية

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …