فيلم قصير جداً

ينتهي العام من دون أن أعرف شيئا عما جرى في مهرجان كان السينمائي الدولي الأخير أكثر من التعليقات العابرة التي قرأتها هنا أو هناك، ليس لأنني لم أذهب ولكن لأن صديقي الناقد السينمائي كمال رمزي هو الذي لم يذهب.

‫فلقد كان كمال واحداً ممن يحرصون على حضور هذا المهرجان المخصص للأفلام الروائية الطويلة، والذي يعقد في الفترة من ١٢-٢٣ مايو من كل عام، والذي يضم أيضاً مسابقة للأفلام الروائية القصيرة. وهو، كمال، ما إن يعود من هناك حتى يقوم بإيفاء حق الصداقة ويقدم لنا ما يشفي لهفتنا؛ أي يضعني داخل أجواء العروض، كما يستعرض أهم القضايا التي إستلفتته. والأمر هذا يستغرق مكالمات ليلية طويلة، ليأتي دوري بعد ذلك، إذ أعاود الاتصال به مرات عدة لاستكمال بعض التفاصيل التي ترد إلى ذهني حول الموضوع أو طرح مزيد من الأسئلة التي لم ترد على البال في حينها، المهم أنني تأثرت جداً بتوقفه عن متابعة المهرجان الذي كنت أزوره بالوكالة، وألحقتها بقائمة الخسائر غير المتوقعة، وما إن فعلت حتى رأيت أن أقوم، كوكيل معتمد، بإيفاء حق القارئ علينا بمشاركته في حكاية فيلم هندي قصير كان قد حدثني عنه عقب واحدة من زياراته المتعاقبة.

‫الفيلم القصير جدا (دقيقتان أو ثلاث) كان حاز جائزة المهرجان في ذلك الوقت، وهو على أي حال لم يكن يبرح ذاكرتي إلا ليعود (هذا حال الفن، غالبا، عندما يكون هكذا)؛

لذلك سأحاول هنا أن أستعيد لك ما تركته الحكاية في مخيلتي، مستعيناً على ذلك بذاكرة يتعذر الوثوق بها لأسباب تتعلق بقلة المُروَّة، غالباً، فضلاً عن حالة «ألزهايمر» القومي الذي نعاني منه جميعا.

‫إليك، إذن، هذا المشهد.

‫الوقت آخر الليل. الكاميرا (لا نراها طبعا) ثابتة في ناصية زقاق تنقل لنا شريحة من طريق عام في العاصمة الهندية «نيودلهي».

‫مصابيح قليلة مضاءة وليس من أحد آخر.

‫في خلفية المشهد بضعة محلات مغلقة وراء الرصيف الممتد بعرض الشاشة.

‫هناك كائن نائم على هذا الرصيف ومختفٍ تحت غطاء قديم.

‫من الزاوية اليسرى للكادر يتقدم شخص على نفس الرصيف ويلاحظ الكائن المغطى.

‫إنه يتوقف.

‫يتلفَّت هنا وهناك. يقترب بهدوء.

‫يرفع الغطاء وينسلّ تحته منضما إلى الكائن النائم.

‫فترة.

‫تلاحظ حركة خفيفة ومنتظمة تحت الغطاء.

‫هدوء.

‫الشخص يطل برأسه من تحت الغطاء ليراقب الطريق.

يقوم واقفاً وهو يسحب الغطاء على الكائن ويمشي خارجاً من يمين الكادر.

‫يعود المشهد إلى خلوه وثباته كما كان.

‫فترة أخرى.

‫يدخل الكادر شخص آخر.

‫يلاحظ الكائن النائم، يتمهل.

‫إنه يتطلع هذه الجهة إلى تلك. يقترب، وبسرعة، ينسل تحت الغطاء منضماً إلى الكائن النائم.

‫تكون حركة خفيفة منتظمة.

‫فترة، يطل برأسه.

‫يغادر مكانه وهو يسحب الغطاء على النائم ويغادر مسرعاً من يسار الكادر.

‫يعود المشهد إلى خلوه وثباته كما كان.

‫الكاميرا ثابتة مكانها طيلة العرض.

‫ضوء النهار يتسلل.

‫الحياة تستيقظ رويداً.

‫صوت محل يفتح، أو سيارة عابرة من بعيد.

‫يدخل شرطيان من يمين الكادر.

‫أحدهما ينتحي جانباً ليبول، بينما يتقدم الآخر من الكائن النائم، يكشف وجهه الذي لا نراه.

‫فترة.

‫يغطيه مرة أخرى.

يستدعي زميله بعد أن إنتهى من التبول.

‫يتحدثان.

‫أحدهما يحمل الكائن النائم من يديه والآخر يحمله من قدميه.

‫يمران أمامنا بعرض المشهد حتى يخرجا من يسار الكادر.

‫فترة.

‫من يمين الشاشة، تدخل عدة كلمات مكتوبة.

‫الكلمات تقول:

‫«كثيرات من نساء الشوارع،يمتن على الأرصفة».

‫صمت كامل داخل القاعة يستمر من خمس إلى سبع ثوانٍ.

‫القاعة تنفجر في تصفيق حاد يتجاوز مدة العرض بدقيقة أو إثنتين.

إنتهى.

إبراهيم أصلان

كتاب شيء من هذا القبيل

‫. 

‫. 

‫ 

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …