الملاك النائم

كانت فاطمه ملاكاً في عالم البشر والماديات وكل من كان يعرفها من قريب أو بعيد يحبها ويتمنى صداقتها لحسن خلقتها وأخلاقها فهي قد جمعت ما بين الجمال وحسن الخلق والثقافة والتواضع والذكاء والعقل الرصين، فقد كانت متفوقة في دراستها وخاصة في الثانوية العامة وحتى عندما دخلت جامعة الأميرة نوره في كلية إدارة الأعمال وقد حصلت على معدل تراكمي عالي في السنة الأولى وكان معها صديقتاها ساره وجواهر ولكن الأولى في كلية التصاميم والفنون والأخرى في كلية علوم الحاسب والمعلومات وكن معاً في الثانوية العامة كزميلات حتى توطدت علاقتهما وتحولت لصداقة قوية بعد ذلك وكان مايشغل بالهن هو عملهن بعد العصر كمتطوعات في العمل الخيري خدمة للدين والوطن والمجتمع وفي مساء يوم الأثنين 17/7/1439هـ توجهت فاطمة عصراً إلى مقر التطوع بعد يوم حافل في الجامعة وكانت مجهدة بدراستها بعد عمل بحث مطول في مكتبة الجامعة قد إستغرق منها وقتاً وجهدا كبيرين وحينما وصلت إلى المقر كان الجميع بإستقبالها من صديقاتها والزميلات وكانت تقابلهم بالإبتسامة والكلمات الجميلة شعرت فاطمة بضوضاء الصالة من كثرة الحضور وكانت ساره بجانبها و تحدثها عن جدول فعاليات عمل اليوم ، ولكن فاطمه تشعر بأنها ليست على مايرام فقد كانت تسمع بعض الكلام وبعضه لم تسمعه لأنها كانت تشعر بصداع شديد ثم رأت أن الصالة ومن فيها تدور بها وبعدها بلحظات سقطت على الأرض وضرب رأسها حافة الطاولة التي كانت من خلفها وسقطت أرضاً وشج رأسها من الخلف وأخذت تنزف وترتجف و اجتمعن من حولها جميع الحاضرات وهن يصرخن من هول الموقف واتصلت ساره فوراً على الأسعاف وبعد ربع ساعه كانت سيارة الأسعاف حاضرة لمقر الفعالية فدخل المسعفون ووضعوا لها الأوكسجين حيث كانت تعاني من صعوبة في التنفس وجففوا الدم وعقموا الجرح ووضعوا قطن وشاش ثم وضعوها على كرسي نقال في سيارة الأسعاف ثم خرجت ساره فوراً من المقر لسيارتها ولحقت بهم وتوجهوا إلى مدينة الأمير سلطان على طريق القصيم  لقسم الأسعاف وحضروا الدكاترة وباشروا حالتها  وقرروا فوراً تنويمها في قسم العناية المركزة ووضعوا لها مغذي به توصيلة لذراعها  ووضعوا لها جهاز للتنفس الصناعي كي يضخ لها الأوكسجين  في الرئتين وبعدما خرج الأطباء والممرضات قربت ساره من صديقتها المسجاة على الفراش ومسكت يدها وقالت لها أنا معك يا صديقتي فاطمه ولن أتخلى عنك حتى أن شاء الله تقومين بالسلامة ثم وضعت يدها الأخرى على جبين فاطه وأخذت تقرأ عليها القرآن الكريم منها آية سورة الكرسي والمعوذات والأذكار والدعاء لها بالشفاء وحينما همت ساره بالمغادرة قالت لها والدموع في عينيها أتركك الآن يا صديقتي كي ترتاحي وسآتي لك كل يوم وسأبلغ أخوك حمد وأبلغ العمادة في الجامعة عن وضعك في العناية المركزة والآن أترك في عناية الله  ثم خرجت ساره من الغرفة وهي تمشي بممر العناية حزينة والدموع في عينيها وأتصلت على صديقتها جواهر وأخبرتها عن حالة فاطمه وماحدث لها من غيبوبة قد تطول على حسب كلام الأطباء وقد تفقد الذاكرة فتأثرت جواهر وأخذت تبكي ودعت لها بالشفاء ثم أتصلت بحمد أخ فاطمه الذي تعيش معه بعد وفاة والديها وذهل وقال سأذهب للاطمئنان عليها وأشكرك على وقوفك معها وبعدما ذهبت ساره فاطمه كانت تشعر بما قالته لها وهي فاقدة للوعي وكانت تود أن تحرك يدها أو عينيها أو تتكلم ولكن لاتستطيع وكما أنها قد سمعت كلام الأطباء يوم حضروا عندها وقالوا أنها ممكن أن تفقد الذاكرة وأن نسبة أفاقتها من الغيبوبة هي 30% لأن المخ قد تأثر عند السقوط وكما أنها تشعر بالممرضات إذا كنا حولها وهن يغيرن كيس البول وهن يضعن الأوكسجين أو يوخزنها بأبرة المغذي في معصمها ولكن لا تستطيع الحرة ولا الكلام وهي تشعر بهن عند تغيير الأنابيب البلاستكية وكنا كل ساعتين يقلبنها على الجنب الآخر ويغيرون المخدة وغطاءات الفراش كل ست ساعات حتى لا يتقرح جسمي وبينما أنا كذلك جاء لزيارتي أخي حمد وسأل الدكاترة عني بعدما قرأ ملفي الذي على السرير وقبل جبيني ودعاء لي بالشفاء وأما صديقاتي ساره وجواهر فقد جئن بعد ذلك بفترة ثم أخذت ساره بيدي ووضعت يدها الأخرى على جبيني وأخذت تتلو علي آية الكرسي والمعوذات وتدعي لي بأدعية وأذكار ثم أخذت تحدثني عن فعالية التطوع  وانهم ذلك اليوم قد زارهم أطفال متلازمة داون مع عائلاتهم وتم أعطاءهم إسكتشات وألوان كي يرسموا عليها وتحدثوا معهم وفي النهاية أعطيناهم العاباً وحلوى ثم أخذت ساره وجواهر يتحدثن لها عن يومهم الدراسي في الجامعة وأن جميع الزميلات والدكاترة  قد انزعجوا بعدما علموا عن حالتك يا فاطمه وكلهم بدون استثناء يدعون لك بالشفاء العاجل ثم أخرجت ساره من حقيبتها عطراً أنا أحبه وعطرت سريري وشممتني إياه بيدها وشممت رائحة العطر وكنت أسمع ما تقولاه ساره وجواهر وأعي لما يحدث من حولي ولكني لم أكن قادرة على الاستجابة وكنت أقول في نفسي أتمنى يا الله بأن أقوم أتوضأ أو أتيمم وأصلي وأن أتلو القرآن وأقرأ لي كتاب، وكانت ساره هي التي قد حافظت على زيارتي دوماً وكان في كل زياره تقرأ على آية الكرسي والمعوذات ومما تيسر من القرآن وكانت ترقيني وتتحدث معي وكانت كل مره تحضر معها كتاب لتقرأ على منه وتحدثني بكلمات جميلة وأنا في غيبوبة وفاقدة للنطق والحركة فكانت لطيفة بي وتطمئن قلبي وكانت تصر على أن تتحدث مع الأطباء وتتابع حالتي وتحرص الممرضات علي ،برغم أنها تعرف بأني على فراش الموت ويمكن أن أغادر هذه الحياة في أي لحظة وبرغم ذلك لم تتخلى عني بل كانت عيناها تبرق بالألم والخوف لأجلي ولكنها تحرص على أن تشرق بالحياة والأمل والابتسامة الجميلة بوجهها السموح بعكس بعض أقاربي إذا زاروني يرعبني صمتهم وتشاؤمهم وحزنهم وعيونهم  الممتلئة بالدموع والشفقة والأسى على الذي ينشرونه من حولي في كل زيارة كان ذلك يتعبني ويزيد من ألمي بعكس صديقتي ساره التي تحرص في كل مرة على إحضار معها كتاب مختلف وتختار منه الكلمات الجميلة ما به إيمان وتفاؤل وأمل وحب كي تقرأها علي وكان هذا كافياً للتخفيف علي وإبعاد الوحشة والألم والخوف والوحدة عني بعدما أخذ مني التعب كل مأخذ وكنت أشعر بالممرضة عند توصيلها للمغذي في معصمي وفي الليل يعم الهدوء وتطفئ الأنوار في العناية ثم أرى ضوءً يحملني  وأني قد تحررت من الألم الكبير ورأيت بأنني أطفو وأرى جسدي  المسجى على الفراش وأرى التوصيلات المتصلة بجسمي وجهاز التنفس ورأيت أيضاً وجهي الذي أصبح أصفراً و شاحباً ثم رأيت وأنا أصعد للسماء وأرى من تحتي المستشفى والشارع والسيارات التي من حوله ثم رأيت وكأني فوق السحاب بالسماء وكان من حولي أشخاصاً ملائكية يشعون نوراً ويبتسمون لي وكانوا يعرفونني ويقولون لي: يافاطمة الله معك ثم نحن فلا تخافي ولا تقلقي ولا ألم بعد اليوم إن شاء الله وستعودين لحياتك في الوقت المناسب وشعرت بأن هذه المخلوقات الملائكية تغمرني بالحب والأمل والتفاؤل وتمنحني الدفء وتذكرت قصة أصحاب الكهف ورعاية الله لهم وهم في غيبوبة لأكثر من ثلاثمائة سنه قال تعالى “وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا” وظللت ساكنة هادئة وسعيدة لأنني لم أشعر بأن مريضة وفي غيبوبة ولكني في رحلة أراد الله بأن يوصل لي رسالة في هذا الطريق المظلم والمخيف في عالم مابين الحياة والموت لأنني كنت دائمة التفكير لفقدي لوالدتي ووالدي لذلك شعرت بأن الله معي وأني لست وحدي وكنت بعد ذلك لا أشعر بالزمن ولا بالألم ولا بالخوف وبعدها بفترة نهضت من غيبوبتي وفتحت عيناي وصرت أشعر بجسدي وجاءني أخي حمد وصديقتي ساره وجواهر وقالوا لي والفرحة تعلو وجوههم  الحمد لله على سلامتك اليوم ستبدئين بالعلاج الطبيعي بالمستشفى كي تعود عضلاتك ومفاصلك إلى وضعها طبيعي وبعدما تتحسنين ستخرجين بإذن الله وقلت في نفسي وأنا أبتسم لهم الحمد لله لم أكن أشعر بالغربة ولا الوحدة ولا الآلام ولا الحزن بل كنت أشعر بدفء الحب والسلام والسعادة والفرح الذي لا يمكنني وصفه لأني كنت بمعية الله والملائكة ولذلك أتمنى العودة للغيبوبة فقلت لحمد كم استغرقت في الغيبوبة فقال لي ستة أشهر ، شهرين كانت عيناك مفتوحة والأربع الأشهر الباقية كنتي مغمضة العينيين وكنتي كالملاك النائم  ثم ألتفت لساره وقلت لها أشكرك على اهتمامك وحضورك كل يوم ورقيتك لي في كل مره وقراءتك لي في بعض الكتب وعلى أحضارك للعطر الذي أنا أحبه فقد شممته وأنا غيبوبة وأشكرك على روحك الحلوة أنتِ وجواهر وأشكركم على اهتمامكم جميعاً فقالت ساره وهي مندهشة: هل كنت تريني وأنا أفعل ذلك فقلت لها لا ولكني كنت أشعر بك ولكني لا أستطيع التجاوب معك فقال حمد شدي حيلك يا فاطمه وخلصي الجامعة فمكان وظيفتك لازال شاغراً في إدارة الشركة وأنا بحاجة لك في شركتنا التي هي شركة الوالد رحمه الله  فهزت فاطمه رأسها وهي مبتسمة وقالت على خير بإذن الله.

سلمان محمد البحيري

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …