وفاء للماضي الجميل  

كان صديقي حمد قد تقاعد منذ عشر سنوات وكان التواصل فيما بيننا قد قل وأقتصر على الاتصال بالجوال أو نلتقي في بعض المناسبات أو في بعض الأحيان في الاستراحة وكان قليل الحضور وقد كان شخصا جميلا يأسرك بحسن أخلاقه وثقافته وتعلقه بالتراث حيث كان لا يفوت أي مهرجان للجنادرية وكان حريصا على زيارة المتاحف الأثرية في المدن السعودية وكان يعشق الدلال القديمة وأباريق الغضار والصحاف ” البوادي الخشبية ” والأبواب والنوافذ الخشبية لبيوت الطين وقد صمم الملحق الذي بمنزله على هيئة مجلس قديم من الطين وفرشه بالفرش القديم ووضع الوجار والكمار وماتبعه من ملحقات من دلال وأباريق ومنفاخ والمبرد للقهوة والنجر وكان بعض الأحيان يذهب لسوق الزل في الديرة لأجل البحث عن تحف خاصة بالتراث ويشتريها وكان يحضر المزاد على الأشياء التراثية وبرغم أنه كثير السفر لعوالم كثيرة وجميلة ولكنه لا يشعر بالسعادة والدفء إلا حينما يكون في حارة قديمة بها بيوت طين برغم أنه يملك مجمع فلل كبير له ولأولاده في شمال الرياض وقد بناها على شكل ديكور بيوت الطين

ولكن ذلك لم يروي ظمئ شغفه حتى جاء ذلك اليوم وتلقيت اتصالا منه بالجوال وبعد السلام والسؤال علن الحال قال: ابغاك تسير علي ليلة الخميس عشان أنا عازمك على العشاء من زمان ما اجتمعنا أنا وياك ولكن ابغاك تمرني في حوطة خالد حيث أنا موجود في بيت هناك وسأرسل لك الموقع على الجوال و أنا في انتظارك ولا تخليني فقلت له: أبشر أنا غداً بعد صلاة العشاء سأكون عندك وعندما جاء الغد قررت أن أصلي العشاء في مسجد على الطريق حتى لا أتأخر على حمد فاستقليت سيارتي وذهبت لأصلي العشاء في مسجد الجوهرة بشارع الخزان وبعدما فرغت من الصلاة بالمسجد ركبت سيارتي ورجعت من على شارع فيصل بن تركي نحو الشرق من جهة عمارة الباخرة وعندما نظرت ليساري رأيت حديقة الفوطة وقصر الحمودي الذي كانت تقام فيه احتفالات الزواج في ذلك الوقت وملعب الزهرة ثم دخلت المنطقة بها بيوت وقصور طينيه وكانت غالبية ساكنيها من العمالة الباكستانية وبعضها مستودعات ووصلت للموقع الذي أعطاني إياه حمد وإذا بي أمام قصر منيف من الطين من الخارج جميل لأنه مجصص عند الباب الخشبي الكبير الملون بألوان جميلة ومجصص أيضا من عند النوافذ الخشبية وهناك نافذة فوق الباب تسمى الطرمة ومجصصة أيضا ونظرت لجدار البيت و إذا هو مزخرف بالطين ومن أعلى الشرفات المجصصة كما  لاحظت الدكة التي بجانب البيت مجصصة كذلك والتي كان يجلس عليها الناس ورأيت المرازم وكأن المنزل للتو مبنياً فهذا التأمل في جمال المبنى كاد ينسيني موضوع زيارة حمد ثم ضغطت الجرس فخرج حمد مبتسما ومحتفيا ومهللا ومرحبا بي وقال: تفضل وتو ما زارتنا البركة فقلت له: الله يبارك فيك فدخلت مع الممر وأخذت أتأمل المنزل من الداخل وإذا البيت بالداخل أجمل من الخارج حتى الروشن والأعمدة والشرفات المجصصة والكوات التي في الجدار التي يوضع بها الأشياء والقرآن الكريم وكانت مزخرفة بالجص فقال لي حمد: تفضل هنا فقلت: ماشاء الله تبارك الله وكانت الجلسة في بطن الحوي” المنزل “وقد قام بسقف بطن الحوي بزجاج قوي له عازل عليه نقوش وكأنه زجاج معشق ولذلك وضع الجلسة في جانب من بطن الحوي مزينة بمسند من جدار عليه شرفات مجصصة وكانت الفرشة عبارة عن سجاد فاخر ومساند ووجار وكمار فقلت له: ماشاء الله ياحمد هذا بيت جميل وكأنه جديد هل ناوي تخليه متحف أو أنك مستأجره فقال: لا هذه ولا تلك ولكني اشتريته  بمائة وخمسين ألف ريال وصرفت على ترميمه وفرشه حوالي مائة وثلاثين ألف ريال وقمت بعمل تمديدات للمنزل من جديد في السباكة والكهرباء والصرف الصحي وبلطت بطن الحوي والغرف والروشن والبهو الذي في الأعلى وسقفت فتحة بطن الحوي من الأعلى كما ترى ووضعت مكيف كبير مركزي وتم ترميم الجدران والأسقف من الداخل والخارج بالخشب والطين والقش وأضفت حمامات تحت وفوق وجعلت تحت الدرج تفتيشه لتصريف الماء لأنني وضعت قربة ماء وزير وصميل “سقا” لأجل خض اللبن وكما قمت بردم البير الذي في الحوش  وغرست ثلاث نخلات وشجر سدر وعنب وتين وخصصت جزء منه مكان للغنم وقن للدجاج وأما سبب شرائي لهذا البيت يا سلمان فهو كان لنا بيت من الطين في حوطة خالد ولكن تم هدمه منذ عدة سنوات وتم بناء بدلا منه عمارة ولقد تألمت عندما هدموه لأنه كانت لي ذكريات جميلة فيه وسمي هذا الحي بحوطة خالد حيث كانت مزرعة للشويعر فاشتراها منه الملك خالد حينما كان أميرا في ذلك الوقت وقطعها لأراضي عدة قطع وقام بعد ذلك هذا الحي فيها وكان يعتبر من أرقى احياء الرياض حيث سكانه من الجهة الشمالية من الأمراء والموسرين وأما جنوب الحي فهم من متوسطي الحال وهذا كان في الستينات والسبيعنات وحتى التسعينات وكان من سكانه عوائل مثل الفوزان والمحيا والبراك والعقيل والمهنا والمنديل والسبهان وآل الشيخ والعمران والعريعر والبصري والجبر و السفيان و العولة و الحاذور والهديب والعمر وغيرهم وكان للوالد معرفة بهذه العوائل وكنا جيران ولي صداقات مع أقراني من أطفال الجيران في ذلك الوقت بالمدرسة والحارة لذلك أجد نفسي حينما تمر علي ذكراهم قد أخذتني سيارتي إلى حارتنا القديمة وإلى مكان بيتنا القديم وبرغم أن مساحة منزلنا كانت صغيرة حوالي 100م ولكن كنا خمس عوائل نعيش فيه ولم نكن نشعر يوما ما بالضيق وكان البركة والخير تعم البيت وكان جو البيت يسوده الألفة والمحبة والتعاون ما بين الكبار نساء ورجالا وأطفالا وكنا نشعر بالسعادة والمحبة والدفء والجو العائلي المترابط لذلك كان له تأثير على نفسي حيث لازلت أتذكر تلك الأيام البهية والروائح الشهية والجميلة في المناسبات كرمضان والأعياد التي يشهدها منزلنا عندما يزورنا أحد فقد عشت في منزلنا الطيني وكان أكبر همي في ذلك الوقت هو حل الواجبات المدرسية الكثيرة حيث كنت في المرحلة الابتدائية بالصف الثالث ابتدائي وكنت أسمع غناء العصافير والحمام في الحوش الخلفي لمنزلنا حيث كنت أذهب لقن الدجاج وأحضر بعض البيض إذا طلبته مني جدتي أو أمي لذلك كنت أرى العصافير والحمام على الشجر والنخل ترتب أعشاشها أو راقدة على بيضها أو تطعم فراخها  ولذلك كنت أسمع صوتها  في الصباح الباكر وعند الغروب وأتذكر كنا نلعب في ساحة الحارة “البرحة ” كرة قدم ومصاقيل والدنانة والعكوس ولعبة التحطيب بالعصا وأحيانا نذهب لحديقة الفوطة ، كما لا أخفي عليك بأنه أحيانا أرى هذه المناظر في حلمي إنها أيام رائعة ولكنها اختفت من حياتي وكأنه ابتلعها الثقب الأسود الذي بالكون ولكن عبق عطرها لايزال يفوح في داخلي لذلك قررت أن أسعد نفسي وأشتري بيت طين هنا في حوطة خالد لأستمتع بتواجدي فيه وأنا أحيانا أنام فيه وأحضر زوجتى وعيالي هنا وأحيانا أجتمع مع بعض الأصدقاء هنا وأفضل ذلك على المزرعة أو الاستراحة لأنني قد وجدت سعادتي وراحتي في هذا المكان لأنني أحب الأماكن الأثرية وأحب الأشياء المتعلقة بالتراث ويقول أبو تمام :

نقل فؤادك ماشئت من الهوى

مالحب إلا للحبيب الأول

كم من منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداُ لأول منزل

وكان حمد مستطرد في حديثه وحماسه عن البيت والحي وهو يعد القهوة والشاي بعدما أشعل الحطب في الوجار وهو جالس بجانب الكمار وبعدما فرغنا من القهوة والشاي بدأ يسعى في إعداد العشاء على موقد بالقرب منا وكان اللحم والبصل والطماطم والفلفل البارد قد قطع وجاهز فقلت لحمد :هل سيحضر أحد من الأصدقاء  فقال: لا أبدا ما غير أنا وأنت

فقلت: هل أساعدك في أعداد العشاء

فقال: لا شكرا لك وأرتاح مكانك

ثم تطرق الحديث إلى عمله بعد التقاعد حيث عمل في مجال العقارات والمقاولات وقام بإنشاء شركة ثم كان الحديث عن العقار وهبوطه في بعض الأحيان إلى 30% في بعض الأحياء والمدن  وبعدما فرغ من اعداد العشاء فرش السماط بالقرب من الوجار ونكب العشاء في الصحن الكبير وتناولنا العشاء حيث كان كبسة لحم جميلة وبعدما شربنا القهوة والشاي وتشعب بنا الحديث عن السفر والأصدقاء والزملاء الذين كانوا في العمل وبعدها نظرت في الساعة وجدت أن الوقت يمشي سريعا وأن الوقت قد أصبح متأخرا فاستأذنت من حمد وقال لي: لحظة البخور جاهز وثم تطيبنا ثم نهضت وقام معي كي يوصلني للباب وقال لي: أنت الآن قد عرفت المنزل وأنا كل نهاية أسبوع أكون هنا فالله يحييك وخلنا نشوفك ولا تقطعنا ثم ودعته واستقليت سيارتي وأنا أنظر للحي وأنظر لتحول سكانه وحاله وتغير المكان ونزوح أهاليه منه وفيهم من توفي ولازال منزله قائما ومنهم من هدم منزله وبنى مكانه عمارة ليؤجر شققها ومنهم من جاء الطريق منزله وثمن وتم هدمه وسبحان مغير الأحوال فقد كانت هناك تلك القصور الطينية تدل على وجاهة وفخامة ساكنيها وكان يعتبر هذا الحي من الأحياء الراقية في ذلك الوقت ولكن تغير الزمن وتغيرت طريقة الحياة وأصبح ذلك من ذكرياتنا وتراثنا وحمد بفعله هذا  وفي لماضيه ووفيا لمن قد عاشرهم ووفيا للمكان الذي قد عاش فيه.

سلمان محمد البحيري     

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …