معلقاً ما بين الحياة والموت

كنت أعرفه منذ الصغر فقد كان ألمعياً وذكياً ولماحاً وصاحب نكتة ودمه خفيف،وعمل في عدة أعمال مختلفة وبرع فيها وعمل في القطاع الخاص ونجح أيضاً بذلك وجمع ثروة حتى تعرفت عليه زمرة وأدخلوه في نفق مظلم وجعلوه يدمن الشراب والحشيش لدرجة أن دمروا حياته الشخصية والعملية والأسرية حتى تخلى عن زوجته التي صبرت عليه وترك أولاده وأهله وانقطع عنهم حوالي عشرين سنه وعزل نفسه في مكان عنهم لايعرف عنه أحد  إلا هؤلاء الحثالة الذين لم يتركوه إلا عندما أفلس ومرض وفقد مستقبله حيث تركوه ليواجه مصيره بنفسه ولم يسأل أحد منهم عنه،حيث وصل به الحال بأن يعيش في بيت طيني بأحد الأحياء القديمة بعدما كان يمتلك شقة جميلة وكبيرة في شمال الرياض ،وهذا البيت الطيني سيء جداً لاتجرؤ حتى القطط على العيش فيه،وقد عرف إخوته عن مكانه بطريقة ما قبل أن تسوء صحته وحاولوا معه لكي يستيعدوه للحياة ولبيته ولعياله ولكنه كان يكابر ويأبى حتى ساءت صحته عدة مرات وأصبح لايملك شيئاً ليأكله وكان بعض الأحيان يتلقى الأكل والمساعدة من جيرانه البنغالية والباكستانيين في الحي وكانوا ينقلونه أحياناً للأسعاف بسبب حالته الحرجة،وقد زرته عدة مرات أيضاً قبل أن تتدهور صحته ونصحته ليترك ماهو فيه حتى لايلقى حتفه ولا أحد يشعر به ، وفي زيارتي الأخيرة لمست منه الندم ولكن بعدما هده المرض وخذلته صحته  وقال لي : حتى الأحلام التي أود تحقيقها قد طارت من رأسي وولت هاربة وهازئة مني وقد أخذت تسكن في رأسي أوهام ومساوئ بسبب تدميري لعقلي وأعصابي لذلك فقدت الأمل والتفاؤل في الحياة وكأن الوجوه التي أقابلها من العمالة في الشارع والحارة متشابهة حيث ترمقني بنظرات حادة  وفيها من التعالي والتحقير لي ، مما  جعلني أشعر بالذلة والإنكسار وكأن سحابة الحسرة تغشاني بسبب ماصرت إليه،،،،آه كيف أضعت وقتي وعمري ومستقبلي بيدي وخذلت زوجتي وطلقتها وتركت عيالي في مهب الريح ولولا الله ثم إخواني وأخوال عيالي لضاعوا مثلي لأنني نقعت نفسي في مزابل الحياة المليء بالمعاصي والرذيلة في مستنقع المتع الرخيصة وأصبحت وائداً لكل المبادئ والقيم واهماً نفسي بالحرية وبانتصارات وهمية قد حققتها في سهراتي بالليالي الحمراء وكنت أتحدى أصدقاء الجلسة بعدد شربي للكؤوس التي أدخلها في جوفي ولا ننتهي من سهراتنا إلا حينما يخرج نور الصباح،وبعدها أستسلم للنوم ولا أصحو إلا بعد المغرب أو بعد العصر وكان يتزايد شعوري برغم أني أعطي نفسي هواها  بأنني نكرة وعلى هامش الحياة وأنه ليس لحياتي معنى و قيمة لأنها بلا هدف ولذلك لست سعيداً، فالخمرة والحشيش تشعرني بنشوة السعادة في لحظتها،ولكن بعدما تنتهي نشوة السكرة تأتي الفكرة،لدرجة بأني صرت أغبط جيراني العمال بأن حياتهم لها معنى برغم أن عملهم فيه مشقة وتعب إلا أنهم أسعد مني لأنهم يكسبون قوتهم من عملهم ، بينما أنا أكابر نفسي عندما ينصحني أحد قلبه علي وقد استيقظ عقلي وضميري وذلك بعد فوات الأوان عندما إفترسني المرض وجعلني عاجزاً حتى عن الحركة والذهاب لدورة المياه وكأنه يريدني بأن أتوقف وأتأمل شريط ذكرياتي وحياتي والنعم التي أنعم بها الله علي وفرطت فيها ثم بدأت أبكي وأتحسر لأنني ضائع وليس لي هدف ولا أمل لأعيش من أجله،و شعرت بأن القدر قد صفعني بقوة لكي أستيقظ، لأنني فقدت ديني وإنسانيتي وفقدت الأشخاص الذين يحبونني لذاتي ، لقد خذلت حتى نفسي وحطمتها لدرجة أنني قبل مرضي أبحث في القمامة عن شيء يباع أو شيء يؤكل من شدة الجوع وأحياناً من شدة التعب أنام تحت الكوبري عائشاً في دوامة عميقة تسحبني إلى المجهول والظلمة وقد كنت أشعر بألم الجوع وليس لدي نقود أو شيء في البيت لآكله حيث أشم رائحة طبخ اللحم أو السمك أو الدجاج أو الحساء من مطابخ بيوت العمال الطينية التي في الحارة،وقد كنت أذهب لبعض المطاعم التي في الشارع لكي أشم رائحة الطعام ،وقد كنت بداخلي أشعر بالحسرة لأن مكابرتي جعل الكل يلفظني ويتخلى عني ولم يتبق لي إلا الله ثم نفسي لذلك تركت الشراب والحشيش برغم شعوري بآلام الأعراض الجانبية لتركه،و شعرت بأن القدر كان معي قاسياً في هذه المحنة ،لدرجة أن الموت رفضني عدة مرات لأنني أشعر بالألم الشديد حيث كنت معلقاً ما بين الحياة والموت بعدما شارفت عليه عدة مرات ،ثم قررت الخروج من الوحل واستعادة نفسي وحياتي بمساعدة إخواني وعيالي ودخلت المستشفى وتم تأهيلي وعدت أعيش بينهم جميعاً ولكن بعد فوات الأوان حيث تجاوزت ال65 عاماً واسأل الله أن يتقبل توبتي ويغفر لي وأن يحسن خاتمتي وأن يخلف علي ماضاع من عمري ومافقدته من نعم بسبب هوى نفسي والشيطان ورفقة السوء.

سلمان محمد البحيري

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …